كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم نقف أمام مدلول مصطلح العبادة الوارد في السورة وفي القرآن كله لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة.
لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه في هذه السورة ما هو مدلول مصطلح العبادة الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية؛ كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسول الكرام، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على ممر الأيام.. فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات:
إن إطلاق مصطلح العبادات على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل، في مقابل إطلاق مصطلح: المعاملات على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل.. إن هذا جاء متأخرًا عن عصر نزول القرآن الكريم؛ ولم يكن هذا التقسيم معروفًا في العهد الأول.
ولقد كتبنا من قبل في كتاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته شيئًا عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه هذه الفقرات: إن تقسيم النشاط الإنساني إلى عبادات ومعاملات مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة الفقه. ومع أنه كان المقصود به في أول الأمر مجرد التقسيم الفني الذي هو طابع التاليف العلمي، إلا أنه مع الأسف أنشأ فيما بعد آثارًا سيئة في التصور، تبعها بعد فترة آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها؛ إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة العبادة إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط، الذي يتناوله فقه العبادات. وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي.
ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولًا وأخيرًا.
وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج.. ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى العبادة في حياة الإنسان.. والنشاط الإنساني لا يكون متصفًا بهذا الوصف، محققًا لهذه الغاية التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني؛ فيتم بذلك إفراد الله سبحانه بالألوهية؛ والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله!
وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم العبادات وخصوها بهذه الصفة على غير مفهوم التصور الإسلامي حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها.
وهي انها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم المعاملات.. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطرًا من منهج العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقًا لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله سبحانه بالألوهية.
إن ذلك التقسيم مع مرور الزمن جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أدوا نشاط العبادات وفق أحكام الإسلام بينما يزاولون كل نشاط المعاملات وفق منهج آخر.. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر..! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله!
وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين على هذا النحو فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين.
وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه؛ ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني.
فالآن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية.. بل أنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله، وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في أمره كله. ولقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم: العبادة نصًا بأنها الاتباع وليست هي الشعائر التعبدية، وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى، واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا: «بلى. إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم». إنما أطلقت لفظة العبادة على الشعائر التعبدية باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون. صورة لا تستغرق مدلول العبادة، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالإصالة!..
ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء.
إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة.. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء.. وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا الأمر بيانًا في هذا التعقيب الختامي الأخير.
فالآن نبين إجمالًا قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء:
* ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد على هذا النحو الشامل في كيان الكائن الإنساني نفسه من ناحية وجوده الذاتي، وحاجته الفطرية، وتركيبه الإنساني.. أثرها في تصوره.. وأثر هذا التصور في كيانه: إن هذا التصور إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل بكل معاني الشمول يخاطب الكينونة البشرية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها، جهة تطلب عندها كل شيء، وتتوجه إليها بكل شيء، جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها وتبتغي رضاها، جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء.
كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام.
عندئذ تتجمع هذه الكينونة.. تتجمع شعورًا وسلوكًا، وتصورًا واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج. وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقًا؛ ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق؛ ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق!
والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها. لأنها تكون حينئذ في حالة الوحدة التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها.. فالوحدة هي حقيقة الخالق سبحانه والوحدة هي حقيقة هذا الكون على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء على تنوع الأنواع والأجناس والوحدة هي حقيقة الإنسان على تنوع الأفراد والاستعدادات والوحدة هي غاية الوجود الإنساني وهي العبادة على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود..
وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق الحقيقة في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية؛ وفي أوج تناسقها كذلك مع حقيقة هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه؛ ومع حقيقة كل شيء في هذا الوجود، مما تتأثر به وتؤثر فيه.. وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار.
وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع الله بها في الأرض أدوارًا عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كيان التاريخ الإنساني..
وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى وهي لابد كائنة بإذن الله سيصنع الله بها الكثير، مهما يكن في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشئ قوة لا تقاوم؛ لأنها من صميم قوة هذا الكون؛ وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضًا.
... إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني. وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله؛ وحين يصبح كل نشاط فيها صغر أم كبر جزءًا من هذه العبادة؛ أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه. وهو إفراد الله سبحانه بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية.. هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه؛ ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها. مقام تلقي الوحي من الله. ومقام الإسراء أيضًا: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا} [الفرقان: 1].
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1].
* وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية:
إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره؛ وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية، في صورة من صورها الكثيرة... سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية؛ وبعضها مثل بعض؛ تخضع الرقاب لغير الله؛ بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله.
والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لابد للناس من دينونة. والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله؛ في كل جانب من جوانب الحياة!
إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط. ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد: 12].
ولا يخسر الإنسان شيئًا كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتمًا بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.
ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد.. يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة، أو في جنس حاكم فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها..
ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.. فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء!.. إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية؛ ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالًا لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلًا! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جدًا من البشر؟.. كل الذين يسمونهم متحضرين..! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات.. إلخ.. ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها؛ أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس في هذه الجاهلية الحضارية! لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادًا متبتلين!.. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضًا؟!
وإن الإنسان ليبصر أحيانًا بالمرأة المسكينة، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثارًا للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها ردًا، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟!
وليس هذا إلا مثلًا واحدًا للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده؛ وحين يدينون لغيره من العبيد.. وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر، ولعبودية البشر للبشر!
وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد، في صورة من صور الدينونة.. سواء في صورة حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، أو في حاكمية الاعتقاد والتصور..
إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي؛ والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورًا منها؛ وتمثل أوهام العوام المختلفة صورًا منها؛ وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال وأحيانا من الأولاد! تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف؛ ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن.. ومن.. من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء!
وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع إلى جانب الأعراض والأخلاق في سبيل هذه الأرباب!
إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ؛ وعلى تصفيف الشعر وكيه؛ وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عامًا بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء!... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.. إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال. ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء!
وأخيرًا تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية.. وما من أضحية يقدمها عابد الله لله، إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافًا للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض..
وتقام أصنام من الوطن ومن القوم ومن الجنس ومن الطبقة ومن الإنتاج... ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب.. وتدق عليها الطبول؛ وتنصب لها الرايات؛ ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد.. وإلا فالتردد هو الخيانة، وهو العار.. وحتى حين يتعارض العِرض.
مع متطلبات هذه الأصنام، فإن العرض هو الذي يضحى؛ ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام!